هدهدية القتال
فكما قال أحد الجزائريين: "...مُولْ لَهْرَاوَة و دَاقْ فِيهَا مُسْمَارْ...؟!!!".
تتعدد الجبهات، الأهداف و الطريقة المتبعة للقيام ذلك، لكنها تصب في المعنى الوحيد، ألاّ و هو القتال. فهناك من يقاتل بالسيف، و هناك من يستعمل السلاح النفسي، فتتنوع الوسائل لكنه في الأخير يبقى قتالا. حتى الأسباب تختلف من طرف إلى آخر، فالذرائع كثيرة و مقنعة إن لم نقل مرضية، لكنه يسمى قتال.
فالقتال هو صراع ناتج عن صدام يأخذ صورا سلبية موجبة، و يدور بين طرفين في جبهة واحدة، أو عدّة أطراف في جبهات كثيرة، مباشرة بين الأقران أو مصاغة بالتعميم و الدوران، بين أصحاب المصالح العليا، و راسمي الاستراتيجيات الممسكة بدفة المصير.
في الكتب السماوية نجد التحريم من جهة، و الترغيب من جهة أخرى أو القصاص في أجزاء مبعثرة و أساسية فتصبح و تمسي، و تبقي على القتال.
أيضا في الدساتير و القوانين، نلمس تلك الصفحات الخشنات بين دفتي القداسة و التعظيم للذين قاموا أو يقومون به، على سبيل الشرعية أو الوجوب أحيانا، فنصل إلى الكلمة الواحدة، ألا و هي القتال.
في المدرسة نلاحظ سير الدروس، و قيمة الامتحانات، اجتهاد التلاميذ، التنافس من أجل العلامات و تحصيل المراتب الأولى، فيسمونه تنافسا شريفا أو غير شريف لكن أصله حبّ التفوق و جوهره قتال.
في العمل نسلك مسلكا مشابها للدراسة، فحبّ التفوق تحوّل إلى هيام للسيطرة، و الشموخ على حساب الآخرين، من أجل المنصب، المال و القيمة المعنوية لشخصية يراد لها أن تكون لامعة، و مؤثرة في الآن معا، و يجاز في سبيل ذلك كلّ المحرمات، لأنّ الغاية هي القمة، و الوسيلة إلى بلوغ هذا إنما هي القتال.
حتى بعد بلوغ هذه القمة، فإنّ الصمود فيها لأطول مدّة ممكنة يتحقق بالقتال.
بين جدران البيت الواحد، لابد للذكر من تسلم مقاليد السلطة، و إدارة الأمور كما يراها، و إقصاء الأنثى بكلّ القوى و السياسات، بينما الأنثى تحاول كسب المكاسب ذاتها عبر المراوغة، و المناورة بالإضافة إلى استعمال ورقة الإيحاء بالضعف، و البراءة الزائفة، فتسمى صراعا، أو مصارعة، لكنها عبارة عن قتال.
في الرياضة، تدور المنافسة بين طرفيْن، أو أطراف كثيرة تحت شعار: "أنت منافسي و ليس عدوّي ..." لكننا نشهد فرحة المنتصر أو بالأحرى الفائز، و دموع المهزوم أو بالأحرى الخاسر، و لو أخذنا النماذج الرياضية كلها كمقارنة بمعركة حقيقية، لوجدناها نسخة متكررة بتحضر الإنسان، و أبسط معايير النتائج فيها يحددها القتال.
في السياسة، نتبنى الديمقراطية خير أنظمة السياسيين على الإطلاق عبر مرور الأيام، لشفافيتها، و الانتقال السلس للسلطة الحاكمة فيها بالتداول، فكانت الانتخابات هي أصل الديمقراطية، و مسارها الذي يكفل الحريات للمواطن البسيط، كما قال و يقول السياسيون سرا و علانية، فترسم البرامج الحزبية و الطائفية، أو العشائرية و الجماهيرية، و يوم إعلان النتائج نشهد عميق سرور المنتخَب الجديد، و عميق حزن المنتخَب السابق، و الذي لم يعيدوا انتخابه، و بين هذا و ذاك فما النتيجة، إلاّ نتيجة معركة تأسست على صراع نفسي بالدرجة الأولى، بين الفئات الاجتماعية قبل الطبقات منها، فهي في الأصل قتال.
و لو نظرنا خلف الأبواب الموصدة لقاعات النقاشات من يسمون أنفسهم علماء أو باحثين، أو حتى فلاسفة، فالعملية عملية قائمة على المدّ و الجزر بين الأفكار و الرؤى، فالمناظرات و الشحن بالإضافة إلى الاستيعاب للمتناقضات، قصد هضم فكرة بعينها صنفت في خانة الفساد، هو في ذلك يرتدي عباءة القتال. فأرسطو قال في يوم من الأيام: "...أحب الحقيقة و أحب أفلاطون، و لكني أفضل الحقيقة على أفلاطون." فبتعمقنا في الدافع الذي جعل التلميذ يتمرد على أستاذه، فحتما سندرك أهمية الصراع الفكري، و تأثيراته العميقة، لأنه أقوى المؤثرات للتغيير، و لا شيء غير القتال.
دعونا نزور البادية، نتجول بين الحقول، نعاين عمل الفلاحين، و ندوّن الملاحظات المختلفة، إننا بهذا نقف على حقيقة أنّ الجودة و الكثرة في الإنتاج الزراعي يتمحور على قضم حقول لأخرى، لإثبات أحسن و أفضل المنتجات و بالتالي هو قتال.
و نترك أهل البادية البرابرة، و نقصد المدن الكبرى، و التي تأوي أناسا متحضرين، هؤلاء الأفراد يتصارعون حول الفنّ و العلم و الصناعة و التجارة و الكثير من الأشياء، و حتى البسيطة منها كقصة الشعر أو رفاهية السيارة، وهذه العملية لا يمكن إلاّ أن تسمى قتال.
و لكي لا ننسى، فلنعرج على الاستراتيجيات، الوجه الجميل للإيديولوجيات المخيفة. فإن تعمقنا في محتوياتها نجدها حزمة أفكار تخدم اتجاها بعينه، و لكن مكمن القبح حسب المتتبعين في هذا، أنّ المستمسكين باستراتيجية معينة، يهدفون إلى اقامتها على أسس سميكة تضمن لها الثبات و السيادة، و بطريقة طردية اقصاء جميع الاستراتيجيات الأخرى، و سحقها الذي لا يدرك إلا بالقتال.
و لكي لا تفوتنا صبغة هذه العملية المعروفة، فإنّ خلاصتها هي خسارة النفس و الروح قبل ضياع الحياة، ألا و هي دخول الوغى من جميع جوانبه قصد اجتثاث فرد أو جماعة، اتجاه أو معتقد، خصم أو أحد العراقيل من طريق المكتسب للنجاح و مالكه، و هذه احدى صور التصادم المشرعن و الغير ذلك، لكنه حتميّ في أحسن الأحوال، إنها عملية قائمة بذاتها، لاثبات الأقوى أو الأجدر، لبيان الأسمى من التصنيفات و الأصناف للهادفين إليها، و الساعين للحصول عليها، و كلّ هذا يستوجب علينا، الوقوع في نفس الخندق، و إن تجاهلناه و أنكرناه، إلاّ أننا مقاتلين بطبعنا، مقاتلين بعاداتنا، مقاتلين رغما عنا، و هذا ما دفع بي أنا مــزوار محمد سعيد بتسمية نفسي بالمقاتل، أحيانا أكون شرسا، و أحيانا أكون ناعما لطيفا، لكنني في الحالتيْن مقاتل ... مقاتل... مقاتل.
السيد: مـــزوار محمد سعيد