إن العقل الإنساني حسب أغست كونت، يمر بثلاث مراحل أساسية، لا بد منها لتكون الفكر الصحيح. و هي بذلك في حركة ديناميكية، الهدف منها تحقيق التطور. فهذه المراحل تشكل الوحدة العضوية، التي لا تقبل التقديم، و لا التأخير. بحيث أن العقل الإنساني حسب كونت، يمر بالمرحلة الأولى، و التي تعتبر بداية وعيه. فهي بداية التساؤل، و بداية محاولة الإجابة. فالإنسان في هذه المرحلة يحاول البحث عن المعارف المجهولة بالنسبة إليه، بطرحه لأسئلة مختلفة، و غير مركزة. لكن بادرة السؤال في حد ذاتها، هي أحد انجازات هذه المرحلة، و ذلك لاعتباره نقطة البداية، في طريق المعرفة. فهو اعتراف بجهل المعارف، أي إدراك الذات الإنسانية أنها لا تدرك الأشياء. فتلجأ للبحث عنها، عبر نافذة السؤال. و من بين خصائص هذه المرحلة أيضا، هي تلك الإجابات التي تتبلور لدى العقل الإنساني، و هي في مجملها إجابات جاهزة، يعتمد تصديقها الإيمان بها. فهي في غالب الأحيان تكون عسيرة على الفهم، مستحيلة التكرار، و الإعادة في ظروف اصطناعية، أو في ميدان الواقع. و هي تجعل الوعي البشري، في مفترق طرق المعرفة، و أمام خياريْن، أحلاهما مر. فإما تصديقها بغض النظر عن صدقها، أو تكذيبها و بالتالي الطعن في منظومتها و معاداتها، و غالبا ما كان الخيار الثاني مهلكا لأصحابه. و قد عرفت هذه المرحلة باسم المرحلة اللاهوتية، لأن إنسان هذه المرحلة اتخذ من مبادئ الدين و المعتقدات، و الأساطير المختلفة ملجأ لتفسير الظواهر و تأثيراتها. فكون نتيجتيْن حتميتيْن لهذا المسار التفكيري، و تمثلت في زيادة سلطات رجال الدين، الذين اعتبروا مصادر المعلومات، و التفسيرات لمختلف الحوادث و الوقائع. و نتج عن ذلك أيضا، عدم خضوع العقل لأي ضوابط في عملية بحثه عن النتائج، فاستعان بمختلف الحكايات و القصص التي لم تساهم إلا في تضليل العقل، الذي ما فتئ أن تجاوزها مع مرور الزمن .
في أثناء هذه المرحلة التي أفرزت عدة أوجه للتناقضات، على الجانبين المعرفي و المعيشي، أخذ العقل البشري يحاول التخلص من تبعاتها السلبية. قصد الوصول إلى تفسير أكثر إحكاما للظواهر، بدون تبعات مؤذية، سواء للإنسان أو المعرفة الصافية. و هذا أدى به إلى تجاوز المرحلة اللاهوتية، و دخوله المرحلة الميتافيزيقية. بحيث أن هذه المرحلة حسب كونت مجرد رد فعل، و تعبير عن عدم رضا العقل البشري، عل إفرازات و إرهاصات المرحلة اللاهوتية، و ذلك بمحاولة منه لتجاوز المغالطات الإعتقادية. بل و محاربتها إن اقتضى الأمر، فهذه المرحلة كان لا بد منها لتسطير الوجه العام للمعرفة البشرية، و التي أخذت على عاتقها التحرر و التحرير على جميع المستويات غاية. و ذلك تم بالتدرج في هذه العملية من الحس إلى العقل، حتى تنتهي بتحرير العقل من القيود الأسطورية. واضعة بذلك حدودا و معايير لهذا العقل أثناء قيامه بعمله المعتاد، و الذي يقوم أساسا عل تحسين و فهم الأوضاع المختلفة، من أجل تيسير العيش و ضمان جريان المعاملات و العلاقات الأفقية، و العمودية. في خضم التطور و التجدد و التقدم في مجالات الحياة المختلفة العلمية و العملية.
مع نهاية المرحلة الميتافيزيقية حسب كونت، فإن العقل يكون قد حقق نتائج عظيمة، فهو الآن يفكر في الإجابة عن تساؤلاته التي تعلم صياغتها، انطلاقا من رغبته في اكتشاف المبهم بالنسبة إليه. و هو الآن متحرر من تلك المعارف الجاهزة، التي تمتلك السلطة لفرض نفسها. و يعمل وفق قواعد تعصمه من الخطأ إلى حد ما، و له القدرة على الإقناع و تثبيت المعارف. و هنا كان لزاما على هذا العقل الدخول في مرحلة جديدة، لإكمال ما بدأه منذ زمن .
هذه المرحلة حسب كونت هي المرحلة الوضعية، أو المرحلة العلمية، و في هذه المرحلة الفكر الآدمي يأخذ على عاتقه القيام بعمله، على جميع الأصعدة، و المجالات. بهدف الفهم و التفسير، و التوضيح و الاستكشاف، وفق مناهج تتطور بتطور المتغيرات الزمنية و المكانية و الأدواتية المختلفة.
فيقترب في هذه المرحلة الفكر البشري من الكمال، بل يتجاوز ذلك إلى محاولة هيمنته على الظواهر، التي يدخلها دائرة الدراسة واضعا مشاريع لا تنتهي آجالها.
فهذا العقل في هذه المرحلة حسب كونت، قد بلغ مستواه و مكانته الطبيعية و العادية، و التي كان يفتقدها في مراحل سابقة. فهذه المرحلة حسب كونت، هي المرحلة النهائية لتطور العقل البشري، و تفكيره. و ما يأتي بعدها ما هو إلا نتيجة الجهد المبذول من قبل نفس العقل، لتعميم سيطرته على الحوادث و الظواهر، بالاعتماد على قواعده المنظمة لعمله، و شغفه اللامحدود بفهم و تحليل و تفسير الحوادث المحدثة و الحادثة. قصد الاستفادة منها أو التحكم فيها على الأقل، تحت مظلة المنهجية السليمة، و المثبتة للقوانين و النظريات المختلفة، و المدعمة بالحجج الدامغة و القابلة للنقاش، و النقد المؤسس على الموضوعية المطلقة، بغرض التحسين و التنوع، و ذلك في إطار البحث العلمي السليم، الذي يسير على خطى و مراحل معينة متفق عليها.
و هذه المرحلة حسب كونت، تعتبر نهاية نمو العقل. في هيئة عقل ساع إلى تطبيق ما تعلمه، في هذا الكون الشاسع، لعله يصل إلى التحكم فيه، و السيطرة عليه. و هي نهاية الدورة التطورية.
و هذا في نظر أغست كونت من خلال قانون المراحل الثلاث:"إن مختلف تأملاتنا تمر بالضرورة، سواء لدى الفرد أو النوع بثلاث حالات نظرية بوسع التسميات المألوفة كاللاهوتي و الماورائي و الوضعي أن تفي بوصفها، على الأقل بنظر الذين فقهوا معنى هذه التسميات. و لو بدت المرحلة الأولى ضرورية بجميع جوانبها، فيجب بعد الآن اعتبارها مرحلة مؤقتة و تمهيدية أما الثانية....لا تتضمن أبدا إلا غاية انتقالية، توصلنا تباعا إلى المرحلة الثالثة و الأخيرة. فالنظام النهائي للعقل الإنساني يكمن فقط في هذه المرحلة الجد طبيعية..."(1)
:(1)Conte (A) Discours sur l’esprit positif. Paris.ed.Sechleier-1909/P5 et 6.